قد
تشير قاعدة الاسناد على القاضي بتطبيق قانون اجنبي معين و القاضي لا يكون ملزم
بتطبيق هذا القانون بدافع انه يخالف مفهوم النظام العام مما يستوجب استبعاد
تطبيقه. هذه الحالة ترتبط باستخدام القاضي لوسيلة اساسية تمكن من استبعاد تطبيق
القانون الاجنبي الذي يتبين له انه يتعارض مع مفهوم النظام العام.
من
ناحية اخرى هذا الاستبعاد يمكن ان يتم في الحالة التي يعتقد فيها القاضي ان هناك
تحايل الاطراف من اجل استبعاد القانون المقرر أصلا لحكم النزاع و ذلك باستبدال
ضابط الإسناد مثلا.
وسيلة
الدفع بالنظام العام : هي وسيلة من خلالها يستطيع القاضي التخلص من الاحكام
المتعارضة مع المبادئ التي يقوم عليها مجتمع دولته. و بالتالي فان مسألة الدفع
بالنظام العام تشكل صمام امان بالنسبة للمجتمع بحيث انها تستخدم كوسيلة من القاضي
لاجل تفادي تطبيق احكام تتنافى مع مقومات سياسية و اقتصادية و اجتماعية التي يقوم
عليها مجتمع معين.
و
هي فكرة لم تكن في واقع الامر غريبة عن القانون الدولي الخاص لانها وجدت منذ
العصور الوسطى عندما فرق الفقيه bartole ما بين الاحوال البغيضة التي لا يمكن ان
يمتد تطبيقها الى الخارج و انما تطبق تطبيقا اقليميا. و الاحوال المستحسنة التي
يسمح لها و ضمن ظروف معينة ان تطبق خارج الاقليم الذي صدرت و نشأت فيه.
و
اول من وضع فكرة النظام العام هو الفقيه الالماني saviny و هو المؤسس
لنظرية التنازع بين القوانين بصفة عامة. و ذلك عندما استند على فكرة الاشتراك
القانوني حيث لاحظ بان القوانين الغربية الاوروبية بالدرجة الاساسية تشترك فيما
بينها في مقومين اساسيين :
-
المقوم الديني بحيث تنبني على الديانة المسيحية خاصتا
فيما يتعلق بالاحوال الشخصية.
-
القوانين الاوروبية هي وريثة القانون الروماني بحيث ان
هذا القانون هو المشترك بينهما.
اذن
هذه الدول عندما تشترك في هاذين المقومين فلا شك ان تثار بالنسبة لهذه الدول
اشكالية التنازع بين القوانين. و يمكن ضبطها على اساس استقلال ضوابط الاسناد. لانه
في الحالة التي لا يكون هناك اي تشارك قانوني بين منظومتين قانونيتين معينتين فلا
يمكن ان تثار مسألة التنازع بين القوانين.
كما
ان مفهوم النظام العام مفهوم مستعصي و لا يمكن للمشرع ان يضع و يحدد عن طرق نصوص
قانونية الحالات التي يكون فيها القانون الاجنبي مخالف للنظام العام. و بالتالي
امام هذه الاستحالة تبقى السلطة التقديرية للقاضي. و عندما نقول ان السلطة
التقديرية للقاضي فهذا لا يعني اننا نطلق العنان للقاضي و انه يقدر هذه المسألة
كيفما شاء. بل هي سلطة تقديرية مقيدة لان القاضي يجب عليه ان يعتمد في هذا التقدير
على معايير موضوعية تاخذ بعين الاعتبار ما يجول داخل المجتمع و ليس ما يعتقده القاضي.
و
هنا تطرح اشكالية تتعلق بالوقت الذي يتعين فيه على القاضي ان يعتد بفكرة النظام
العام هل هو وقت نشوء الحق ام وقت النظر في النزاع ? الرأي الراجح يذهب الى ان تقديم فكرة النظام العام يجب ان تتم وقت
النظر في النزاع لا وقت نشوء الحق لان فكرة النظام العام تتغير في الزمان و القاضي
عليه ان يمثل و يجسد ارادة التطور.
1- اساس
نظرية الدفع بالنظام العام :
في
البداية يجب الاشارة على ان الدفع بالنظام العام ما هو الا وسيلة استثنائية و لا
يتم اللجوء اليها الا في حدود ضيقة. و لذلك يجب الا تتخذ كذريعة لتعطيل تطبيق
قواعد الاسناد الوطنية التي حددت القانون الواجب التطبيق لحكم المنازعة المطروحة.
أ-
أهداف الدفع بالنظام العام :
هناك
عدة غايات تتوخى من استخدام تقنية الدفع بالنظام العام من بينها :
-
استبعاد القوانين الاجنبية المخالفة للحد الادنى من
مبادئ القانون الطبيعي. كالقوانين التي تسمح بالمس بحرية الافراد او القوانين التي
تحرم الشخص من التمتع بحقوق معينة لاسباب عرقية مثلا او عنصرية ...
-
حماية المبادئ التي و ان كانت لا تكتسي صبغة دولية مطلقة
فانها تشكل مع ذلك الاسس السياسية و الاجتماعية للحضارة الوطنية.
-
حماية السياسة التشريعية الوطنية و بالتالي تستبعد من
التطبيق كل القوانين الاجنبية التي تتعارض معها.
-
التعارض مع مبادئ العدالة الدولية او المبادئ المتعارف
عليها في الامم المتحضرة.
من
خلال هذه المعايير المقترحة يتبين على انها ذات هدف مصلحي و هو حماية اسس سياسية و
اقتصادية و اجتماعية. و لذلك في نطاق الدفع بالنظام العام يتم التوسع بشكل كبير
لتعدد هذه الجوانب و عدم دقتها. و القاضي و ان كان يتمتع هنا بسلطة واسعة الا انها
مقيدة بقيدين. الاول انه يجب ان يعمل السلطة التقديرية بناء على ضوابط موضوعية
مبنية على الاسس التي تقوم عليها الدولة و ليس ما يعتقده هو شخصيا. و القيد الثاني
انه اثناء قيامه بهذه العملية يخضع لرقابة محكمة النقض.
و استبعاد
القانون الاجنبي لانعدام الاشتراك القانوني حسب تعبير سافيني بينه و بين القانون
الوطني قد يرجع لسببين:
-
استحالة تطبيق القانون الاجنبي لاعتبارات تتعلق بالمؤسسة
القانونية في هذا القانون.
-
استحالة تطبيق القانون الاجنبي بسبب عدم الملائمة.
و
من كل هذا يتضح ان الدفع بالنظام العام يجد اطاره في انتفاء الاشتراك القانوني اي
عدم توفر حد ادنى من التقارب في المبادئ و الاسس القانونية التي يتضمنها قانون
القاضي و القانون الاجنبي بخصوص النزاع.
و
الذي يفرض استبعاد تطبيق القانون الاجنبي ليس هو القواعد الوطنية المتغيرة
باستمرار و انما هي المبادئ العامة و المعتقدات الراسخة داخل مجتمع القاضي.
ب- معايير
تحديد مجال الدفع بالنظام العام :
لقد
اختلف الفقهاء بصدد تحديد معايير تحديد مجال الدفع بالنظام العام. لكن ما تجدر
الاشارة اليه بهذا الصدد هو ان نطاق النظام العام في القانون الدولي الخاص لا
يتطابق دائما مع مفهوم النظام العام في القانون الداخلي. و يترتب عن ذلك ان :
-
مجال النظام العام الدولي هو اكثر ضيقا من مجال النظام
العام الداخلي. فالاول هو جزء من الثاني. لانه لا يتصور وجود مخالفة في النظام
العام حسب القانون الدولي دون ان تكون كذلك في القانون الداخلي.
-
يختلف دورها بحيث انه يكون دوره هنا حمائيا بينما يكون
في القانون الداخلي وقائيا اكثر.
ت- اثار
الدفع بالنظام العام :
هناك
اثران يترتبان على استعمال القاضي للدفع بالنظام العام فى مواجهة القانون الأجنبي
الذي أشارت لتطبيقه قاعدة الإسناد الوطنية :
-
الاثر السلبي : استبعاد
احكام القانون الاجنبي استبعادا كليا او جزئيا.
-
اثر ايجابي : يتمثل في
ثبوت الاختصاص لقانون القاضي لسد الفراغ التشريعي الناجم عن استبعاد القانون
الاجنبي. فمبدئيا القاضي الوطني عندما يتضح له ان القانون الاجنبي المختص بموجب
قاعدة اسناد الوطنية يتضمن مقتضيات تخالف المبادئ العامة للقانون الطبيعي يتعين
عليه ان يستبعده من التطبيق. مع مراعات بعض الضوابط و لذلك نجد ان القضاء الفرنسي
قد ميز عن اعمال فكرة النظام العام ما بين نشوء الحق موضوع النزاع في فرنسا و بين
ما اذا اريد التمسك بحق انشأ بالخارج. فنشأ بذلك نظرية الاثر المخفف للنظام العام.
فالفقه و القضاء في فرنسا يفرقان اذن عند الاخذ بفكرة النظام العام بين ما اذا كان
الامر يتعلق باكتساب الحق او مركز قانوني في دولة القاضي و الرغبة في التمتع في
فرنسا باثر حق او مركز قانوني اكتسب في الخارج.
يتضح
مما سبق انه ليس من المحتم ان يرتب كل حق او مركز قانوني تم اكتسابه في دولة
اجنبية اثاره بصورة تلقائية في دولة القاضي وفقا للاثر المخفف.
اذن
اذا نشأ الحق لاول مرة في دولة القاضي و كان مخالفا للنظام العام فان الذي يترتب
عليه هو استبعاد تطبيق القانون الاجنبي لمخالفته للنظام العام في دولة القاضي. و
احلال قانون القاضي محله في التطبيق.
لكن
هل استبعاد القانون الاجنبي هنا يجب ان يكون كليا او جزئيا ?
هناك
بعض الفقه اعتبر ان الاستبعاد في هذه الحالة يجب ان يكون كليا و ليس استبعاد
النقطة فقط المتعلقة بالمنازعة. و هناك اتجاه ثاني يرى ان هذا الاستبعاد يجب ان
يكون جزئيا فقط. و هناك تطبيقات قضائية في هذه المسالة نظر فيها القانون الفرنسي و
استبعد ما يتعلق بوسائل اثبات النسب الطبيعي التي ينص عليها القانون الالماني الذي
حدد مجموعة من طرق الاثبات للنسب الطبيعي و اعتبر القانون الفرنسي هذه الوسائل مخالفة
للنظام العام و تم استبعادها لكن القضاء الفرنسي اعتد بالمقابل بالاحكام المتعلقة
بالاثار المترتبة عن النسب الطبيعي. اذن فهو اسبعد الوسائل لكنه اعتد بالمقتضيات و
الاحكام المتعلقة بالنسب الطبيعي. هذا يعني ان القانون الفرنسي استبعد جزئيا
الوسائل و اعتد من ناحية اخرى بالأثار.
و
في قرار اخر اعتبر القانون الفرنسي ان احكام الشريعة الاسلامية المنظمة للميراث
غير مخالفة للنظام العام الا فيما يخص بحرمانها لغير المسلم الميراث.
اما
فيما يخص موقف المشرع المغربي فلم يتخذ موقفا موحدا فقد تباينت قراراته بشكل واضح
مما يعطي صورة اخرى الى مشكل الافتقار الى التوحيد الذي يتحقق معه حسن سير
العدالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق